اكلة لحوم البشر، بين الطبيعة و الجريمة Cannibalism
- Sarah Wafia
- Aug 1, 2021
- 14 min read
اكلة لحوم البشر، بين الطبيعة و الجريمة

يعتقد المرء منا ان تطور الانسان ومرحلية نشاته عبر الزمن كفيلة باستبدال سلوكياته الوحشية و ممارساته الحيوانية التي ابتدأ بها في الغابة حتى تبدل مسكنه و استوطن المدن و انتقل بوعيه من البدائية الى المدنية، ورغم ذلك، مازلنا نسمع الاخبار الوحشية للسلوك البشري، ونتداول نزعة الجريمة و العنف في الانسان، و نضع الاسئلة و التنظيرات حول هذه السلوكيات التي ترفضها الانسانية و يستصعبها الوعي البشري، بالرغم من انها جزء من طبيعة الانسان.
في هذا المقال نتناول سلوك بشري وحشي وهو اكل لحوم البشر، مايعرف اصطلاحا بـ Cannibalism ، نتطرق الى جوانبه الاجتماعية و الثقافية و السياسية و الغريزية، دوافعه على المستويين البشري و الانساني، مما قد يساعدنا للوصول الى اجابات حول طبيعة الانسان و نزعته الحيوانية المجردة التي قد تدفعه لهذا النوع من السلوكيات و الطبائع.
اولا، و لتعريف الكانيباليزم لغة و اصطلاحا، فهي تعني في اللغة ان يتغذى الكائن على شبيهه من الكائنات من نفس نوعه. وتستخدم في الاصطلاح للتعبير عن السلوك البشري لاكل البشر ابناء جنسهم. تنوعت الاسباب لهذا النوع من السلوكيات، ابتداء من الطقوس الروحية و الدينية، العادات الثقافية و القبلية، المشاكل الاجتماعية و الاقتصادية كالفقر و المجاعة، الثورات السياسية و الحروب و الحصار، الحوادث و الكوارث الطبيعية، انتهاءً بالجريمة و العقاب.
التقاليد و العادات الثقافية
تاتي العادات و التقاليد الثقافية في المرتبة الاولى في الممارسات الانسانية، و يستمد منها الكثير من المفاهيم و الروحانيات و المعتقدات الايمانية، نتطرق لبعض الشعوب و العشائر التي عرفت باكلهم للحم موتاهم من البشر، بدافع احياء الذكرى او حفظ الروح، الصحة و طول العمر و كطريقة للدفن، او ببساطة، لحماية العشيرة و ترويع الاعداء.
1. قبائل الماتسيس بغابات الامازون.
كان الماتسيس يحييون طقوس الدفن باكلهم لحم موتاهم، و انها في معتقدهم طريقة لعودة الاموات لعالم الاحياء في اجساد اكليهم من افراد القبيلة، ومن هذه الطقوس اجبارك على البكاء المستمر اثناء تناول لحم الميت والا ستظل روح الميت تلاحقك و تؤذيك، وكان الكهنة منهم يسحرون الناس و يقتلونهم و ياكلونهم، حتى زاروا القبائل الاخرى و تعلموا طرق الدفن في التراب، و استبدلت هذه العادة، من اكل لحوم الموتى الى دفنهم، لكنهم مازالوا يعتقدون ان سبب صيت الشدة و القوة التي يمتازون بها كان بسبب اكلهم لموتاهم. ونرى نفس المعتقد عند الهنود الحمر من قبيلة الواري البرازيلية.
2. قبيلة الواري من الهنود الحمر غرب البرازيل
يؤمن شعب الواري ان اكل ابنائهم و اقربائهم هو شكل من اشكال الحب و الاحترام و تقدير الموتى، استمرت هذه الممارسة حتى الستينيات من القرن الماضي، حتى جاء التبشير المسيحي و نهاهم عن هذا السلوك بحجة انها تنقل المرض و الجنون، لكن شعب الواري يتالمون اليوم من فكرة ان احبائهم من الموتى مدفونين في ارض باردة وحيدين فيها. في كتاب consuming Grief للباحثة بيث كونكلين في دراسة خاصة لهذا السلوك عند شعب الواري وصفت الباحثة ان شعائر الدفن القديمة هذه كانت بدافع الحب و الاحترام، والتقدير الخالص لاسرة الفقيد و توديعه. و للتعمق اكثر في هذه الشعائر، فانهم يزينون الحطب بالاشرطة الملونة و ريش الطيور، و تخبز النساء الخبز من دقيق الذرة و تستمر وليمة الدفن هذه 3 ايام حيث يجتمع لها جميع الاقرباء، وبمجرد اكتمال التجهيزات، يزينون اللحم باللون الاحمر و يقطعون الجسد الى قطع صغيرة، ثم تصدح الاغاني و التمتمات الحزينة من جميع افراد القبيلة، ثم و باحترام و حرص شديدين يغسل اللحم و ينظف و يوضع على الحطب ليشوى و ينضج بهدوء، بعد ذلك، ومن غروب الشمس حتى الشروق، يجتمع الجميع من الاقرباء لاكل الميت بهدوء، ثم اخيرا تحطم العظام الى قطع صغيرة و تدفن في مكان نوم العائلة التي لا تشارك في هذا الطقس، بل هي مهمة خاصة للاقرباء من جهة الزوج و الابعدين. يعتقد شعب الواري ان اختفاء الجثة بشكل كامل هو صورة من المواساة لاهل الميت و لذلك فانهم يحرقون كل مايرتبط بالميت من ارث او ذكرى، حتى املاكه بالسوق، بل و يتجنب المرء ذكره تماما، كما لو انه لم يكن حيا يوما.
تبدو هذه العادات بالقسوة الكافية لجعل الانسان يتجرد من كل مشاعر الانسية، انه ومن حق المرء ان يشعر بالحرية الكافية ليعيش الالم و يشعر به، و يعبر عنه كيفما اراد، و حين لا يبقى للانسان سوى ذكراه بعد الموت، فيبدو هذا الطقس بشكل ما يحرم الانسان من حقه الطبيعي بالحياة في حياته و احياء ذكراه في مماته، وهو امر يثير التساؤل حيث يعتقد شعب الواري ان طريقتنا الحديثة في احياء الذكرى للموتى و دفنهم في اعماق الارض او حرقهم هي طريقة مقززة و عديمة الرحمة، كما نرى (نحن انسان اليوم) ان طريقتهم هي الاكثر وحشية و قساوة.
3. قبيلة كورواي في غينيا الجديدة
في جزيرة بابوا في غينيا الجديدة، كانت ممارسة اكل لحم البشر تعتبر وسيلة للنجاة، حيث انها شائعة بين العشائر من قبيلة كورواي كطريقة لردع العشائر الاخرى، اما لحماية النساء و الاطفال او في حال الاعتداء على غذاء العشيرة، فيقتل و تؤكل جثة المعتدي كنوع من علامة القوة و العقاب، حتى جاءت المسيحية و الغت هذه الممارسات واجبرتهم الحكومة بالاندماج بالقرى و المدن و العيش بسلام.
كل هذه القبائل بتعدد اسبابهم ومعتقداهم في هذا السلوك فانهم يشتركون في شيء واحد، وهو استيطانهم للغابات و انعزالهم عن الناس و المجتمعات الاخرى و رفضهم لاي اتصال بالعالم المدني. لكن الامر يختلف عند الصينيين الذين ياكلون لحم الاجنة المجهضة لاسباب اخرى كالرفاهية و العلاج رغم الحضارة العريقة التي تمتاز بها الصين.
ان الحديث عن الصين ينقلنا لمحور واسع الاوجه، ابتداء بالصدامات السياسية و الثورات الثقافية التي عاشتها الصين في منتصف القرن الماضي، انتهاء بنشوء عادات صحية جديدة و ثقافة طعام تتفرد بها الصين عن بقية دول العالم.
الصين
عاصرت الصين فترات مختلفة من الثورات و الحروب و الانتكاسات الاقتصادية ادت الى سلوك الكانيباليزم.
ابتداء بالاسباب السياسية في حركة القفزة الكبرى الى الامام التي تراسها ماو تسي تونغ فقد فاجات الصين العالم بالسلوك الوحشي الذي مارسه الشعب على من سموهم باعداء الثورة. حيث حدثت المجزرة في الشوراع و الطرقات و صنعوا الموائد من احشاء الموتى قبل حرقهم من قبل الجلادين، كانو بعتبرونه كنوع من العقاب و ايذاء العدو وشكل من اشكال الانتصار الشخصي ضد العدو، ولم يكن له دافع اكثر من التعصب و الحقد السياسي، و الجوع طبعا.
كان هذا لعقد بعيد من الزمن، لكن اليوم و بعد الاستقرار السياسي و الاقتصادي في الصين، نشات ثقافة جديدة للاكل في الصين قد لاتستوعبها باقي شعوب العالم، لكنها مميزة في تلك البلاد، من ضمنها تناول الاجنة المجهضة، فبسبب القرارات المتعلقة بعدد افراد الاسرة التي لا تتجاوز الابن الواحد، و تفضيل الصين الذكور على الاناث، و اسباب اقتصادية اخرى نشات ثقافة بيع الاجنة المجهضة و التي تقدر من 6 الى 20 دولار امريكي بحسب عمر الجنين و حجمه، و بات من الطبيعي ان ترى في بعض الاقاليم الصينية وجبات تعد من لحم الاجنة او جرار من مخللات الاجنة المجهضة، باعتقاد انها تزيد من الكفاءة الجنسية و الصحة العامة، وتظل هذه الممارسات مشرعة في بعض الاقاليم الصينية و ممنوعة في اخرى.
غريزة البقاء
مثل ماحدث في الصين من ثورات دفعت الانسان لهذه الممارسات بهدف النجاة، فقد شهد التاريخ الكثير من الحوادث التي ادت الى سلوك الكانيباليزم لانسان اليوم المعاصر، في الظروف الصعبة من انهيار الاقتصاد والحصار في الحروب و العنف الممارس في معاملة الاسرى انتهاء بالمجاعات و الكوارث الطبيعية.
في منتصف السبعينات من القرن الماضي شهد العالم حادثة عرفت بـ " طائرة اكلي لحوم البشر"، حيث كانت طائرة مسافرة من تشيللي للارجنيتن تحمل 45 راكبا من لاعبي كرة الرغبي مع اقاربهم و اصدقائهم قد اصطدمت بجبال الانديز، و بقي الناجين و عددهم 9 لمدة 72 يوما اضطروا فيها الى الاحتماء باجساد موتاهم، و الى اكلهم في الاخير حيث كانوا المصدر الوحيد للبروتين في تلك الجبال الوحيدة المتجمدة، حتى استطاعوا النجاه بعد اكثر من شهرين في العراء الثلجي.
مثلها حادثة الشدة المستنصرية في مصر حين انحسر نهر النيل 7 سنوات في عهد المستنصر بالله في العصر الفاطمي، مما ادى الى اكل الناس بعضهم البعض احياء و امواتا، اكلوا البشر و الكلاب و القطط الحي منها و الميت.
الطقوس الروحية
قد تكون هذه هي اخطر الدوافع لظاهرة اكل البشر، حيث يصعب تغيير المعتقد الديني او نفيه، بالرغم من ان جهل الانسان سابقا كان سببا رئيسيا لهذا السلوك الا ان بعض الطوائف و المذاهب تؤمن -حتى يومنا هذا- ان اكل لحم البشر يرتقي بالروح، و يساعد على الاتحاد بالاله الاعظم. في المقابل، تذهب بعض الطوائف الى الاعتقاد بان اكل ادمغة الانسان تحيي الذكرى، او تنقل الذكاء و المعرفة، اكل القلب يرتقي بالروح و يقوي الجسد، و تناول الاعضاء التناسلية هي سبب رئيسي لقوة الاداء الجنسي، كل هذه الاعتقادات تدفع الانسان لهذا النوع من السلوك ولعل ابرز طائفة تؤمن باكل لحم البشر هي طائفة الاغوريين. الاغورية هي طائفة هندوسية تنفي النظام و المحرمات و تؤمن بكسر القواعد و القيود ويدعون للعيش في مستوى واحد حيث لا يفرقون بين الانسان و الحيوان، ولا يؤمنون بالمستويات الاجتماعية اذ لا يفرقون بين رئيس الدولة و المزارع، يغطون وجوههم برماد الموتى و يتزينون بعظامهم و يتناولون لحوم البشر نيا كطقس للارتقاء الروحي مع الاله، يدخنون الماريوانا كنوع من اطلاق الروح و اتحادها مع الاله و يتناولون الطعام و الشراب في جمجمة بشرية يستخدمونها كوعاء. اضافة لعادات و ممارسات اخرى قد تبدو مرعبة و غير منطقية لكن تظل الغاية من هذا السلوك العبادة و تسخير الذات للاله. قد يتساءل البعض عن مصدر هذا الغذاء، فهم لا يقتلون او يصطادون البشر كفريسة للغذاء، بل ينبشون القبور و يتناولون اللحم الميت للبشر و الكلاب، لغاية واحدة وهي الارتقاء و نبذ القيم الدنيوية و التقاليد و اي ايمانيات او معتقدات متعلقة بالحياة الدنيا
تبدو غريزة البقاء و كل من الطقوس الروحية و الثقافية دافع منطقي لهذا السلوك، نظرا لظروفها و معتقداتها و الفترة التي نشات فيها، يخبرنا تاريخ الانسان و الكشف على البقايا العظمية للانسان القديم انه قد عاش هذه الممارسات لمختلف الاسباب و على مر العصور، البقايا العظمية في الكهوف المدفونة و الاراضي النائية، فضلات الانسان القديم التي حللت و اظهرت انها تحتوي على مواد كيميائية لا توجد الا في جسم الانسان، علامات تقطيع الجثث الظاهرة على الاسطح العظمية من تشريح و سلخ و تقطيع و فرم و استخراج النخاع العظمي من العظم، و التي يجدر الذكر انها لا تعني دائما انه قد تم تناوله بل قد يكون مجرد طقس او عقاب او وسيلة لاخفاء جريمة ما. بتعدد الدوافع لهذا السلوك فان مايثير الدهشة حقا هو اتجاه بعض البشر الى قتل الضحايا و اكلهم، استعبادهم، او اتجاه البعض الى البحث عمن ياكلهم برضاهم، واخيرا، ما يعرف بالاكل الذاتي.
تفاجؤنا حقيقة ان الشهوة دافع للاستمرار على هذا النوع من السلوك. يخبرنا التاريخ بمجموعة لا يستهان بها ممن مارسوا اساليب القتل المذكورة، و التي سنذكر بعضهم و نتدارس اوجه التشابه و الاختلاف بينهم و نحاول فهم الاسباب و الدوافع لهذا السلوك الناتج من انسان اليوم.
اولهم: القاتل الآكل الياباني: ايسي ساقاوا Issie Sagawa
ولد ايسي ساقاوا في اليابان في مقاطعة هيوغو في العام 1949 لاسرة ثرية يابانية طبيعية، يقول ساقاوا انه كان يعاني اثناء نشاته من تحفظ والديه الشديد فيما يخص مواضيع الجنس تحديدا، لم يكن باستطاعته الحديث فيما يدور من افكار في راسه، اجابات للاسئلة و التعبير عن ميوله و نفسه في هذا الجانب تحديدا، كان يخجل من شكله و يعتقد انه قبيح و ضعيف حيث كان ضئيلا و قصيرا. كان يشتهي لحم الانسان و يستهويه شكل الجسد البشري كوجبه. حتى في العام 1981 و اثناء دراسته الجامعية في فرنسا، تعرف على صديقة، و هي ضحيته الاولى، رينيه هارتفلت Renee Hartevelt وقضى معها شهرا حتى كسب ثقتها، كان ينوي اكلها، كان معجبا جدا بشكلها و شكل جسدها و صحتها، وهي من المعايير الاساسية التي كان يختار على اساسها ضحاياه، قتلها اولا، ثم قرر اكلها، ابتداء بالمؤخرة، و المفارقة المضحكة حين قال انه بدا بالجهة اليمنى لان اليسرى اقر للقلب، وهو يخاف الدماء. يقول ساقاوا انه استمر في اكل الجثة لمدة 3 ايام، و حفظ منها في ثلاجته، و انه يتعجب من تنوع الدهون في جسم الانسان و طعمه المحايد اللذيذ، ساقاوا كانيبال يمارس سلوك الكانيباليزم لحبه و اشتهائه طعم الانسان، فهو يقتل الضحية ثم يتناولها و يتلذذ بها بعد فترة من التخطيط و معايير محدده للجسد الملتهم. قد تم اطلاق سراح ساقاوا من فرنسا وتم تسليمه للسلطات اليابانيه و اصبح رجلا مشهورا في اليابان، بفضل الاعلام الذي حسن صورته و جهود محاميه بوصفه مختل عقليا يحتاج الى العلاج، تمتلئ الصفحات بوثائقيات كثيره عن قصة ساقاوا الكانيبال، و قصصه مع ضحاياه، حتى العام 2017 استضافت قناه فرنسية قصته، و العديد من قنوات الاعلام في بريطانيا و اوروبا و امريكا و اليابان بالطبع، العجيب انه قد تم التعاطف مع ساقاوا، و يعود سبب نجاته من السجن و العقاب الى نفوذ والده و جده.
يخبرنا ساقاوا عن نوع جديد من الكانيبالز، في ظل الحروب و الحصار و المجاعات و الخوف الذي عاش فيه الانسان، يظهر ساقاوا و العديد من مناصري قصته و المتعاطفين مع قضيته نوع جديد من هذه الممارسات، السؤال هو، هل هذا السلوك مقبول بيولوجيا و اجتماعيا و ما اثره النفسي على صاحبه، تشير لنا قصة القاتل المتسلسل جيفري دامر الى وجه اخر لهذا السلوك الاجرامي.
جيفري دامر: قاتل يعشق ضحاياه
ولد جفري دامر في العام 1960 في ولاية ويسكونسن الامريكية، لاسرة متوسطة، كان عاملا في مصنع للشوكولا، وكان يعاني منذ بداية مراهقته من ادمان الكحول، كانت اول ضحاياه في سن المراهقة بعد تخرجه مباشرة من الثانوية، قتل دامر 17 ضحية، كان يستدرجهم بالمال و الفاحشة الى منزله، ويقتلهم ثم يغتصبهم اموات ثم يتناول جثتهم، ويحتفظ ببعض اعضائهم كنوع من الذكرى، يقول دامر انه كان يستمتع باحساس السيطرة الذي يملكه على ضحاياه و ان حياتهم بيده، كان يتناول لحمهم كنوع من الاتحاد مع ضحاياه و تملكهم، بل كان يحفظ جمجمة احد الضحايا و يتجول بها في مقر عمله دون علم احد، يقول دامر ان هذا كان يشعره بالقوة و السعادة و الامتلاء، و المثير للاهتمام انه كان في حال من الغيبوبة في حين ممارسته الكانيباليزم، بل ان جريمته الثانية لم يتذكر منها شي، يقول دامر انه لم ينوي ايذء ضحيته الثانية، لكنه استيقظ و وجده ميتا من شدة الضرب، ولا يذكر من الاحداث شيئا، واخر جريمة استطاعت الضحية الهرب عاريا و اخبر الشرطة وهنا قد تم القبض عليه، لكن دامر يقول انه لايتذكر شيئا من تلك الاحداث و انه بمجرد هروب الضحية بدا كل شيء ضبابيا و منسيا و لم يجر وراءها، بل تعاون مع الشرطة حال وصولهم ولم يقاوم، يصف دامر هذا السلوك بانه كان احساس شديد بالقوة و السيطرة و تملك الضحايا وانه لولم يقبض عليه لاستمرفي فعله هذا، وانه كان يتمنى ان يصنع لنفسه مذبحا يحتفظ فيه ببقايا ضحاياه، يقول انه في مرحلة ما كان يستمتع بتناولهم احياء كالزومبي، و حفظ ادمغتهم احياء، وانه بناء على خيالاته التي كانت تسبق هذه الممارسات، فكانت كلها بعد شرب القليل من الكحول و القراءات الاباحية معا، و بالرغم من ان اغلب ضحاياه كانو ذكورا سود و مثليين الا انه اكد انه اختار ضحاياه بناء على شكلهم و نوعهم و لم يكن هناك اي عنصرية تجاههم وانه يمارس القتل و الاكل من اجل ارضاء الذات فقط، و في عبارة عميقة قال دامر، انه كان الشيء الوحيد الذي يشعره بالرضا التام، التملك و الهيمنة و الاتحاد الجبري مع شخص ما، وانه لا يلوم اي شيء سوى نفسه، لا الدين و لا المجتمع ولا القيود كان دافعا لهذ السلوك، لا شيء سوى الرضى بطاقة الهيمنة و التملك. مات جيفري لاحقا في السجن بعد شجار حاد مع احد زملائه بالسجن ادى لموته مباشرة. ومات وهو مازال يحمل هذا الهوس تجاه الانسان و التهامه.
تروي قصة دامر جانب شديد الحساسية في الوعي البشري، السيطرة و العنف و القتل، صفات غريزية متاصله وبدرجة عميقة في الذكور من الجنس البشري، وما يكفي منها في الجنس البشري الانثوي، تاتي دراسات الانثروبولوجيا و الاركيولوجيا و الانثروبولوجيا الجنائية وكتب الؤرخين الى وصف طبيعة الانسان والتي استمدها من اصوله من الحيوانات قبل ارتقائه الى الانسية، تشير بعض تلك الدراسات الى اثبات حقيقة ان الانسان بفطرته يحمل "عقلا اجراميا" بينما يشير البعض الى تفسير التطور بانه مادام الانسان قادرا على التطور للحفاظ على غريزة القتل، فانه قادر على التطور ايضا للعيش بدون القتل، نظرا لاختلاف ظروف الحياة و وفرة الامان و الغذاء ( Jan dan, 2008). في منشور لجامعة تكساس وصفت الفرق بين الغرائز الانسانية و الحيوانية بان الانسان و بشكل واضح قادر و بشدة على التعديل على غرائزه وفقا للتطور، حيث تعتبر الغرائز الانسانية انتقالية بشدة، بينما تظل الغرائز الحيوانية مكتسبة للكائن الحي بشكل دائم و لا تتغير الا بالممارسة المتكررة.
بالحديث عن غريزة القتل، عاش الانسان عمرا في الغابة و الصحراء، بغض النظر عن الغرائز الحيوانية المتاصلة في الجنس البشري، فقد اعتمد الانسان هذا السلوك بغاية النجاه، اما دفاعا عن النفس او للصيد، اعتاد الانسان على هذه الممارسة حيث كانت توفر له الحماية و الغذاء، و القوة ايضا، وبفضل التطور، ارتقى الانسان من الحيوانية البشرية لى الانسانية، نظم المجموعات و صنع الاقتصاد و المنظومات الاجتماعية، و بهذا عاش في وفرة من الامان، امان اجتماعي وظيفي اسري و تامين للمستقبل، مصطلحات وجدت بعدما تمكن الانسان من خلع رداء الغابة و استغلال التطور البشري، كل هذا ادى الى اندثار الغرائز العنيفة المتاصلة فيه، كنزعة القتل و السرقة و الاغتصاب، الحقيقة ان كل هذه الغرائز لم تختفي، هي موجودة في فطرتنا، لكنها خاملة و خامدة حيث لم نعد بحاجة لهذه الممارسات لاستعادة الحق في ظل وجود النظام و القانون (المدنية) و لا للخوق من المستقبل و الموت جوعا، لكنها متصله في الجينوم البشري، باستثناء انها غير مفعلة. وهذا مايفسر علميا وجود شخصيات تاريخية عرفت بالعنف و الظلم و السلطة الشديدين في العالم، قبل و اثناء و بعد الحربين العالمية الاولى و الثانية.
على الرغم من فهمنا للسلوك البشري الوحشي وتفسير الكثير من الاستفهامات حول هذه الطبيعة، تاتي الكانيباليزم لتحمل العديد من الاسئلة حول طبيعة الانسان، مالغايات التي دفعت الانسان القديم لهذه الممارسات، هل كان الانسان يعتبر غذاء للبشر، ولماذا لم نر سلوكا مشابها في عالم الحيوان، كاعتبار الحيوان من نفس النوع مصدرا للغذاء. يقال ان سلوك الكانيباليزم في عالم الحيوان و الانسان يؤديان لنفس النتيجة، و هي ادمان الكانيبال للحم نوعه من الكائنات، و القوة التي يحصل عليها من هذا النوع من الغذاء، و هذا ينقلنا لموضوع اخر وهو الغذاء و التغذية، المباشرة و الهرمية. والتي سنتناولها لاحقا. لكن السؤال هنا، هل هناك علاقة واضحة بين الكانيباليزم و النيكروفيليا؟ يروي لنا التاريخ الكثير من القصص و الحوادث المرتبط بهذين السلوكين و التي وبشكل ما ترتبط دوافعهما ببعض.
النيكروفيليا
يوضح لنا القاتل المتسلسل تيد بوندي Ted Bundy نموذج فعلي لعدة اضطرابات نفسية و سايكوباثية، حيث مارس في حياته اشنع الغرائز الحيوانية، من قتل و اغتصاب للجثث و حفظ لبقاياهم و زيارتهم و البقاء معهم لعدة ايام وهو ما تعبر عنه مفهوم النيكروفيليا، قتل تيد بوندري اكثر من 40 ضحية، و اغتصب جثتها و بقي مع الجثث لعدة ايام يزورها و ينتشي بالبقاء معها و النوم في احضانها الباردة، تعرف النيكروفيليا بالهوس المرضي بجثث الموتى، و هو سلوك شاع منذ قدمية الانسانية، في الشعائر الروحية و القرابين البشرية للالهة و في تنفيذ اشنع العقوبات حتى في الروايات الخياليه و الاساطير، تروي لنا ملحمتي الالياذة و الاوديسية الاغريقية المبارزة التي جرت بين البطل اخيل و ملكة الامازون بانثزاليا، و التي انتهت بمصرع الملكة الامازونية فائقة الجمال، وحين كشف اخيل خوذتها بهر بجاملها و تمنى لو انه لم يقتلها و ابقى على حياتها و اتخذها زوجة له، وقد احتفظ بجثتها وبات يناجيها ويبوح بمكنوناته لها، و تقول الروايات الاخيرة بانه قد مارس الجنس مع جثتها. تحمل النيكروفيليا مفهوما جديدا للموت بحد ذاته، و الحب و الجنس و استجابة الطبيعة البشرية لها، عبر فلم Kissed 1996 عن مفهوم الموت و الحب برؤية النيكرفيليا، و الذي يحكي عن فتاة استقالت من عملها كبائعة في محل ورد لتعمل في احدى دور الجنائز، لتكتشف ميولها الغريب مع الموتى، و حين و قع في غرامها زميلها ولم يستطع لفت انتباهها، انتحر ليحصل على هذا الود معها!! يمكن للانسان ان يصنع اغرب الاشياء حين تكون الدوافع عاطفية او شهوانية. بعض الناس اندفعوا لهذا السلوك و حفظ الجثث و تحنيطها بدافع الحب لموتاهم، يتجه الانسان بشكل غريب لهذا النوع من الممارسات، تمتلئ الارفف بكتب تصف السادية و العنف و تبرر غرائز القتل، حتى اننا نذكر عدة حوادث لاشخاص بحثوا عن السفاحين لقتلهم و اكل لحمهم احياء و اموات، ومن هنا، يمكننا التطرق لسلوك الاكل الذاتي، او مايعرف بالـ Self-Cannibalism
Self-Cannibalism التهام الذات
ويعرف ايضا باسم Autocannibalism
يقال ان احساس التهام احد اصابع اليد يشبه احساس تناول جزرة، لكن العقل البشري يرفض هذه الفكرة فيصعب عليه تطبيقها.
هناك حالة نفسية شائعة تعرف بالاكل الذاتي او التهام الذات، او النخر الذاتي ايضا، كلها مصطلحات لنفس الحالة من اكل اجزاء من الجسد، قد تكون الاسباب نفسية او وراثية، قد تكون اسباب عقابية و اجرامية بالاكراه كأن يجبر احد ما على اكل شي من جسده، انفه او اذنه. بعض الجرائم تقوم على الاسباب العقابية، في المقابل، نجد في الادب و الروايات الكثير من مظاهر اكل الذات، في رواية اللجنة، كانت اخر جملة للبطل تقول: "عندئذ، رفعت ذراعي المصابة الى فمي، و بدات آكل نفسي"، جاء هذا النص في وصف العقاب الذي اختارته اللجنة للبطل الذي تمادى في طموحه الزائد للمعرفة و تحدي اللجنة. وكذلك هناك العديد من النماذج في عالم الانسان و الحيوان، في حالات الجوع الشديد و المرض الشديد، او بشكل هوسي و هستيري و يعتبر مرضا نفسيا و شهوانيا برغبة الشخص لاكل نفسه، او بحثه عمن ياكله.
بدء بعالم الحيوان، فان الاخطبوط يصاب بنوع من البكتريا يؤدي به لحكة شديدة فيضطر لاكل الذراع المعطوبة، اما القرش، فحين يصاب بجرح يؤدي به للنزيف فانه يجن جنونه من رائحة الدم، فياكل نفسه مع القروش الاخرى، و بعرف ان الفار في حال الجوع الشديد ياكل ذيله، والامر شبيه للجدجد (صرصور الليل) حيث ياكل اجنحته،
يعتبر بعض حالات الاكل الذاتي طبيعية و عفوية لاكل الشفايف او قضم الاظافر و مص الدم من خد الفم، وتعتبر اكل المشيمة بعد الولادة امر شائع ايضا و بيعها شائع و مقبول في العديد من الثقافات في عصرنا الحالي.
لكن تعتبر الحالات المرضية و التي قد تؤدي للوفاة مثل اكل الشعر وتعرف بمتلازمة ربانزل، اميرة ديزني ذات الشعر الطويل، وبعض الحالات الاخرى الكثيرة المصنفة كامراض عقلية.
تعتبر حالات اكل الذات من فرط الجوع شائعة، و شرب البول، و بعض الحالات الغريبة لمن قاموا باكل اجزاء من انفسهم التي تم استئصالها، كشفط الدهون و بعض الاعضاء المبتورة، التي يحتفظون بها بعد العملية، يذكر الطب بعض هذه الحالات كشخص اقام و وليمة لساقه المبتورة، و اخر وهو الرسام التشيلي ماركو ايفاريستي اقام وليمة لكرات الشحم مع الصلصة الشعبية بالدهون المشفوطة من جسده،
يعتبر العقاب من اشنع طرق اكل الذات، حيث يجبر الشخص على اكل جزء من جسده، كالاذن و الانف او العضو التناسلي الذكري، كنوع من العقاب خصوصا في الثورات و الحوادث السياسية، كما حدث في السودان في العام 1991 حيث تم قطع الاذان و اكلها للعظة ليستمع الناس لكلام الحق من اصحاب الحق، و قطع المهاجرون اعضاء الهنود الحمر التناسلية كعقاب و لمنع التناسل، ذكر الادب شيئا من هذا النوع من العقوبات.
بمختلف الممارسات الانسانية و مختلف اسبابها و دوافعها، تكثر الاسئلة و تتعدد الاجوبة، و في مجمل الاحوال، كان الانسان و مازال و سيظل موضوعا عميقا للبحث عن الاجابة، اللغز الاعظم في تاريخ الارض، بلا بداية او نهاية.
كان هذا المقال ملخص حلقة اكل لحوم البشر في بودكاست جنايات التي تم فيه استضافتي مع مقدمته الرائعة موضي الحميدان.
Comments